عن عائشة t أن رجلا استأذن على النبي e فلما رآه قال ( بئس أخو العشيرة ، وبئس ابن العشيرة ) فلما جلس تطلق النبي e في وجهه وانبسط إليه فلما انطلق الرجل قالت له عائشة : يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه فقال رسول الله e ( يا عائشة متى عهدتني فحاشا إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره ) (1)
شاءت حكمة المولى وقدرته أن تتباين طبائع البشر وأنماطهم ، فمنهم من يكون في حياته كنسمة صيف رقيقة تخفف العناء وتسهل وعثاء الطريق ، طيب العشرة دمث الخلق لين القلب واللسان ، وكأنه قلب خلق منه إنسان ، ومنهم من يضحكك ويؤنسك ولكنه كحلوى الأطفال مذاق دون فائدة ، ومنهم من هو كالزهرة يجذبك جمالها وعطرها الفواح فإذا ما اقتربت منها مزقتك أشواكها ، ومنهم من هو شوك بلا زهر لا يصيبك منه إلا الألم والمرارة وهذا لا سبيل معه إلا الابتعاد عنه وتجنب أذاه ، وهذا الصنف الأخير هو من يصفه الرسول e في حديثه ذاك
( بئس أخو العشيرة ، وبئس ابن العشيرة ) قال الطيبي : العشيرة القبيلة ، أي بئس هذا الرجل من هذه العشيرة قال النووي : واسم هذا الرجل عيينة بن حصن ولم يكن اسلم حينئذ وإن كان قد أظهر الإسلام فأراد النبي e أن يبين حاله ليعرفه الناس ولا يغتر به من لم يعرف بحاله ، وكان منه في حياته e وبعده ما دل على ضعف إيمانه ، ووصف النبي e بأنه بئس ابن العشيرة من أعلام النبوة لأنه ارتد بعده e وجيء به أسيرا إلى الصديق ( تطلق النبي e في وجهه وانبسط إليه ) أي أظهر له طلاقة الوجه وبشاشة البشرة وتبسم له ، قال النووي : وإنما ألان له القول تألفا له ولأمثاله على الإسلام وفيه مداراة من يتقى فحشه وجواز غيبة الفاسق ، ومن الذين يجوز لهم الغيبة المجاهر بفسقه أو بدعته فيجوز ذكره بما يجهر به ولا يجوز بغيره ( إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره ) فيه رخصة المداراة لدفع الضرر ، والفرق بين المداراة والمداهنة أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معا وهي مباحة وربما استحسنت والمداهنة بذل الدين لصلاح الدنيا (2)
قال أبو حاتم : الواجب على العاقل أن يلزم المداراة مع من دفع إليه العشرة من غير مقارفة المداهنة ، إذ المداراة من المداري صدقة له ، والمداهنة من المداهن خطيئة عليه ، ومن لم يدار الناس ملوه ، وقال أيضا : من التمس رضا جميع الناس التمس ما لا يدرك ولكن يقصد العاقل رضا من لا يجد من معاشرته بدا ، وإن دفعه الوقت إلى استحسان أشياء من العادات كان يستقبحها واستقباح أشياء كان يستحسنها ، ما لم يكن مأثما فإن ذلك من المداراة وما أكثر من دارى فلم يسلم فكيف توجد السلامة لمن لا يداري (3)
قال معاوية t : لو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت قيل وكيف ؟ قال لأنهم إن مدوها خليتها وإن خلوا مددتها ، وقال أبو الدرداء لأم الدرداء : إذا غضبت فرضيني وإذا غضبت رضيتك فإذا لم نكن هكذا ما أسرع ما نفترق ، وعن معاذ بن سعد الأعور قال : كنت جالسا عند عطاء بن أبي رباح فحدث رجل بحديث فعرض رجل من القوم في حديثه فغضب عطاء وقال : ما هذه الطباع ؟ إني لأسمع الحديث من الرجل وأنا أعلم به فأريه كأني لا أحسن شيئا (4)
قال الحافظ ابن حجر : ويستنبط منه أن المجاهر بالفسق والشر لا يكون ما يذكر عنه من ذلك من ورائه من الغيبة المذمومة، قال العلماء: تباح الغيبة في كل غرض صحيح شرعا حيث يتعين طريقا إلى الوصول إليه بها: كالتظلم، والاستعانة على تغيير المنكر، والاستفتاء، والمحاكمة، والتحذير من الشر، ويدخل فيه تجريح الرواة والشهود، وإعلام من له ولاية عامة بسيرة من هو تحت يده ، وجواب الاستشارة في نكاح أو عقد من العقود، وكذا من رأى متفقها يتردد إلى مبتدع أو فاسق ويخاف عليه الإقتداء به. وممن تجوز غيبتهم من يتجاهر بالفسق أو الظلم أو البدعة (5)